**تركيا وسوريا- تحولات محتملة في العلاقات ومستقبل التسوية السياسية**

المؤلف: د. سعيد الحاج08.18.2025
**تركيا وسوريا- تحولات محتملة في العلاقات ومستقبل التسوية السياسية**

أثارت تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عاصفة من الجدل الحاد حيال رؤية أنقرة للعلاقات مع الحكومة السورية، وكذلك تصوراتها لمستقبل الحل السياسي في سوريا.

أول لقاء

في الأسبوع الماضي، وتحديدًا يوم الخميس، صرح جاويش أوغلو في رده على سؤال حول إمكانية إجراء مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد، بأنه تبادل أطراف الحديث مع وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، وذلك على هامش قمة دول عدم الانحياز في شهر أكتوبر من العام المنصرم. وعلى الرغم من نفي الوزير التركي لوجود أي قنوات دبلوماسية رسمية بين البلدين، وتأكيده على رفض الرئيس أردوغان لفكرة إجراء اتصال هاتفي مع الأسد، مشيرًا إلى أن اللقاء كان عابرًا ومقتضبًا وغير مخطط له مسبقًا، وأنه جرى "قبل مأدبة الطعام وخلال الحديث مع وزراء آخرين" في محاولة للتقليل من أهمية الحدث وتداعياته؛ إلا أن هذا التصريح قد أثار نقاشًا محتدمًا واستياءً واسعًا بين السوريين على وجه الخصوص.

البيان الصادر في الثاني عشر من الشهر الجاري، أي في اليوم الذي أعقب تصريحات جاويش أوغلو، أكد بشكل قاطع استمرار تركيا في دعم ومساندة الشعب السوري، وأنها لا تزال ملتزمة بدعم حل سياسي شامل للأزمة السورية، يضمن تحقيق مطالب الشعب السوري، وحمّل النظام السوري المسؤولية الكاملة عن تعثر المسار السياسي.

ومما زاد من حدة الجدل، بقية تصريحات الوزير التي شددت على ضرورة سعي تركيا لتحقيق "مصالحة" بين الحكومة والمعارضة السوريتين، مؤكدًا أنها السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة الأراضي السورية وتحقيق الاستقرار المنشود في سوريا.

أشعلت هذه التصريحات موجة من الغضب والاستياء العارم والانتقادات اللاذعة بين السوريين على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرها الكثيرون بمثابة إشارة واضحة لقرب تدشين علاقات سياسية رسمية بين تركيا والنظام السوري، خاصة وأنها جاءت في أعقاب قمة سوتشي التي جمعت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان، والتي صرح الرئيس التركي خلالها بأن نظيره الروسي قد دعاه مجددًا لإقامة علاقات سياسية مع دمشق، بالإضافة إلى الأخبار المتداولة -التي لم يتم التحقق من صحتها- حول احتمال إجراء اتصال هاتفي بين أردوغان والأسد.

وكان رد الفعل الأبرز والأكثر وضوحًا في شمال سوريا، حيث اندلعت عدة مظاهرات حاشدة للتعبير عن الرفض القاطع لفكرة المصالحة مع النظام، ويبدو أن هذه المظاهرات كانت من بين الأسباب التي دفعت وزارة الخارجية التركية إلى إصدار بيان توضيحي يشرح موقفها الرسمي من القضية السورية.

البيان الذي صدر في الثاني عشر من الشهر الجاري، أي في اليوم التالي لتصريحات جاويش أوغلو، أكد بما لا يدع مجالًا للشك أن تركيا مستمرة في تضامنها الكامل مع الشعب السوري، وأنها ما زالت تدعم بقوة حلًا سياسيًّا شاملًا للقضية السورية يراعي تطلعات الشعب السوري، ويحقق مطالبه المشروعة، كما حمل البيان النظام السوري المسؤولية المباشرة عن تعثر المسار السياسي وتعطيله.

معطيات مهمة

في محاولة للإجابة على التساؤل حول احتمالية حدوث تغيير في الموقف التركي تجاه النظام السوري، يبدو أن السياقات العامة والمعطيات الكبرى تحمل دلالات أعمق بكثير من مجرد التفاصيل الصغيرة. أول هذه المعطيات هو أن مسار المصالحات والتهدئة في المنطقة قد تأسس على عدة أسس، من أهمها فشل ما يسمى بـ"الربيع العربي" في معظم الدول التي شهدته إن لم يكن جميعها، وهو ما دفع القوى الإقليمية إلى محاولة العودة إلى المعادلات التي كانت سائدة قبل ذلك.

والمعطى الثاني الذي لا يقل أهمية هو أن منع قيام أي كيان سياسي مرتبط بحزب العمال الكردستاني، المصنف على قوائم الإرهاب التركية، يمثل الأولوية القصوى لأنقرة في القضية السورية، وبأي وسيلة ممكنة.

أما المعطى الثالث فهو أن القضية السورية، وخاصة ما يتعلق بوجود اللاجئين السوريين في تركيا، تعتبر من أبرز الملفات المطروحة على أجندة الانتخابات المصيرية المقبلة في البلاد، وهو ما دفع حكومة الرئيس أردوغان إلى الحديث عن مشروع تعمل عليه لإعادة أو عودة مليون سوري إلى منطقة الشمال السوري في أقرب وقت ممكن.

والمعطى الرابع هو وجود قناة استخباراتية، وربما عسكرية أيضًا، بين أنقرة ودمشق بشكل رسمي وعلني، وقد أكد الرئيس التركي نفسه بنفسه وجود هذه القناة، بالإضافة إلى التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير خارجيته. وقد دعت روسيا تركيا مرارًا وتكرارًا إلى التواصل السياسي والدبلوماسي المباشر مع النظام السوري لمعالجة ما تعتبره تهديدات ومخاطر لأمنها القومي، وخاصة ما يتعلق بالمنظمات الانفصالية في منطقة الشمال السوري، إلا أن رد أنقرة كان دائمًا هو عدم الحاجة إلى هذه القناة الدبلوماسية والاكتفاء بالقناة الاستخباراتية، وهو ما كرره أردوغان خلال عودته من قمة سوتشي الأخيرة مع بوتين.

والمعطى الخامس هو أن تركيا قد عدلت موقفها من القضية السورية ورؤيتها للحل الأمثل لها على مر السنوات الماضية، وذلك وفقًا للتطورات الداخلية في تركيا، والتطورات الميدانية في سوريا، والمقاربة الدولية لهذه القضية، حيث انتقلت من الدعوة إلى الإصلاح، إلى دعم الثورة، ثم المطالبة برحيل الأسد، وصولًا إلى قبول الحل السياسي مع اشتراط رحيله خلال فترة انتقالية لا يعود بعدها إلى منصب الرئاسة.

وأخيرًا، من المفيد التذكير بالدعوات المتزايدة في تركيا إلى التعاون مع نظام الأسد، وذلك انطلاقًا من المصالح المشتركة المتمثلة في منع قيام كيان "كردي" في منطقة الشمال السوري، وعودة اللاجئين، وهي دعوات تتبناها المعارضة التركية بشكل أساسي، ولكن تشاركها فيها أيضًا أوساط سياسية وإعلامية وبحثية مقربة من الحزب الحاكم نفسه. ومما يزيد من تأثير هذه الدعوات والنقاشات هو استمرار التجاهل الأمريكي للمصالح التركية من خلال دعم قوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى شعور أنقرة بضرورة ترتيب أوراقها في هذا الملف المهم مع موسكو.

مصالحة

فهل تعني تصريحات وزير الخارجية التركي أن بلاده تتجه نحو مصالحة مع النظام السوري، وفتح قناة سياسية مباشرة مع دمشق؟

في اعتقادنا المتواضع، أن الأمر يتطلب نقاشًا معمقًا في مسارين مختلفين، ولكنهما مرتبطان ببعضهما البعض إلى حد كبير:

المسار الأول هو المصالحة بين دمشق وأنقرة، وهو أمر لا يبدو وشيكًا في الوقت الراهن، ولا توجد قرائن حقيقية تدل على قرب وقوعه. صحيح أن كل ما سبق من سياقات ومعطيات يدفع بهذا الاتجاه، ويدعم هذه الفرضية رفض روسيا وإيران للعملية العسكرية التي لوحت بها أنقرة في منطقة الشمال السوري، وحاجة الحكومة التركية إلى تحقيق إنجاز ملموس في هذا الإطار، ودفع موسكو لتحقيق أهداف العملية (إبعاد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية مسافة 30 كيلومترًا عن الحدود) من خلال النظام السوري وليس عبر عملية عسكرية.

هذا صحيح، ولكن من جهة أخرى، تدرك أنقرة تمام الإدراك أن تطبيع علاقاتها مع النظام السوري، بما في ذلك الاعتراف به رسميًا، قد يكون مقدمة لمطالبته إياها بسحب قواتها من الأراضي السورية. وهو أمر يدفع إلى استبعاد هذا الاحتمال في المرحلة الحالية، وتوقعه فقط في حالة التوصل إلى صفقة متكاملة بين الطرفين بوساطة روسية، بحيث تشمل هذه الصفقة حلًا لمسألة اللاجئين، وبقاء القوات التركية في سوريا مؤقتًا، مع تطوير "اتفاق أضنة".

أما المسار الثاني، والمتعلق بالتصالح بين النظام والمعارضة، أو بالأحرى الرؤية المستقبلية تجاه حل القضية السورية، فهو يحتمل تطورًا في الموقف التركي أكثر من المسار الأول. فعلى الصعيدين الدولي والإقليمي، لم يعد هناك من يدعو إلى إسقاط نظام الأسد، وعلى الصعيد المحلي، لم يعد هناك الكثير ممن يقاتلونه. صحيح أن الحل السياسي وفق القرار 2254 هو المقبول دوليًا وتركيًا وفقًا لما هو معلن، إلا أن غياب الأدوات التي يمكن أن تفرض هذا الحل، وتجمد المسار السياسي عند عقدة اللجنة الدستورية، والأوضاع الميدانية المعقدة في سوريا، وأوراق القوة التي تمتلكها موسكو في الملف السوري، وغيرها من العوامل الأخرى، لا تدعو إلى تطبيق القرار في نهاية المطاف، وإنما إلى حل أقرب إلى الرؤية الروسية، وهو الإصلاح تحت راية النظام، أو إعادة هيكلة النظام في أفضل الأحوال.

وبناءً على ذلك، فإن تحول أنقرة إلى قبول حل سياسي يشمل بقاء النظام، والعمل على مصالحة بينه وبين المعارضة المدعومة تركيًا، يبدو أمرًا متوقعًا ومتناغمًا مع التطورات الميدانية، والتصريحات السياسية الصادرة عن المسؤولين الأتراك مؤخرًا.

وفي هذا السياق، لا ينبغي فهم التصريحات التركية على أنها مجرد بالونات اختبار يتم إطلاقها تمهيدًا لمرحلة قادمة، ولكنها تعبر عن تحول حقيقي في التوجهات قد حدث بالفعل، وينتظر أن يتبلور في خطوات ملموسة على أرض الواقع، سواء عاجلًا أم آجلًا، وفقًا لما تفرضه الظروف المحيطة.

في الخلاصة، تنظر أنقرة إلى الملف السوري من زاوية الانتخابات المصيرية المقبلة، وتحتاج حكومتها إلى تسجيل إنجاز ما قبل هذه الانتخابات، سواء على صعيد مكافحة مشروع حزب العمال الكردستاني في منطقة الشمال السوري، أو على صعيد عودة أو إعادة السوريين إلى بلادهم. وفي ظل تعقد الأوضاع الميدانية وتشابك المواقف السياسية الرافضة للعملية التركية، قد تقبل أنقرة بتسجيل بعض النقاط وتحقيق بعض الأهداف عن طريق النظام السوري، وذلك في إطار تفاهمات مع الضامن الروسي، وهو ما تطمح موسكو إلى تحويله إلى قناة دبلوماسية لتطوير العلاقات السياسية بين الجانبين.

يعني ذلك أن أنقرة منفتحة حاليًا على دعم خطوات يتخذها النظام باتجاه قوات سوريا الديمقراطية، بما يخدم رؤيتها في مواجهة هذه القوات، وهو ما يعني تطوير أو رفع مستوى التواصل بين أنقرة ودمشق بمساهمة روسية. وفي ظل عدم وجود معارضة حقيقية ومؤثرة للأمر داخل تركيا، سيكون قرار أنقرة المستقبلي بشأن العلاقة مع النظام السوري مرتبطًا إلى حد كبير بما يقدمه لها النظام وروسيا في الملف الأكثر أهمية بالنسبة لها، وهو مكافحة الامتدادات السورية لحزب العمال الكردستاني، وبما يضمن عدم الإضرار بمصالحها على المدى البعيد، فضلًا عن مسار الحل السياسي الداخلي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة